09‏/08‏/2012

عمود الجامع

    كبريائه المنحني كظهره يجعلك تتضائل أمامه اجلالا....يداه متشابكة خلف ظهرة كحكيم جارت عليه الأيام بتجارب لا تحتمل....تصغر كثيرا في حضرة حزنه الدفين في زاوية ما داخل روحه المتعبة....تخرج الكلامات من فمه مجهدة لكثرة ما دارت كورقة خريف حائرة في ذهنه قبل أن ينطق بها لسانه الرتيب الألفاظ....يعيد حساب الوقت الذي تشير أليه عقارب ساعته الفضية القديمة للمرة الثالثة في آخر ربع ساعة مرت على وقوفه ناصية الشارع في انتظار حلول موعد أذان المغرب.....

    بذهول تراقب أنتظار الخالي من كل علامات الترقب التي يبديها البشر.....يخرج المسبحة من جيب معطفه الشتوي الذي لم يكف عن أرتدائه في كل الأحوال الجوية طيلة السنوات الخمس الماضية....ودون أن يعير أنتباها لضجيج الشارع المزدحم,يسحب كرسيا حديديا من القهوة الشعبية القريب....يجرها بهوان نحو الزاوية البعيدة عن الأكتظاظ,القريبة من المسجد.....يجلس بترو آخذا نفسا عميقا وهو يعيد بأفكراه جرد ما تبقى من نقود في حسابه البنكي من راتب التقاعد القليل وهل سيكفيه حتى آخر الشهر في حال لم يستطع أبنه المقيم في الخارج تحويل البعض منها له....تشتد يده على المسبحة متنهدا بأستغفارات وتهللات يسمعها كل المارة على الرصيف.....هل يسمح له الوضع بالسهر الليلة مع أصدقائه في مقهاهم المعتاد؟؟...لعله يتناسى بعض همومه.

    يقاطعه صوت سماعة المسجد معلنة بآيات قرآنية أقتراب موعد الأذان....يهم بالوقوف ولازالت الأفكار المهمومة بوضع زوجته الصحي الذي تدهور بالآونة الأخيرة تقتله....تلمع الفكرة في رأسة كصاعقة "هل سأبقى وحيدا بعدها..؟".....يعيد الكرسي الحديدي مكانه....وينطلق نحو المسجد بعدما أشاح له أمام المسجد برأسه من الجهة الأخرى للشارع....يرفع الأذان وهو على عتبة المسجد يخلع نعليه....ويدعو ربه كما كل يوم بتيسير الحال....ويصلي بجانب عمود المسجد الذي أعتاده منذ عقود حتى ظنه زميل عمل.