26‏/09‏/2012

عَ الرصيف

   بنهم...يحملق بكل شيء متحرك من حولة...سيارات,عربات,بشر,ومحلات تجارية.....ينقل عينيه بخفة بين الأجسام العائمة على سطح زحام آخر النهار....حمراء الشفق تغطي السماء....وكأس شاي كرتوني يتنقل بين يمينه ويساره.

   في آخر رصيف زاخر بالغرباء الذي يتعاقبون على الجلوس على حافة الحوض الترابي الكبير الذي ينتصب بوسطه مجموعة من أشجار النخيل الشاهقة,جلس متأملا منصتا للألحان المنبعثة من ضجيج زحام وسط المدينة....يطرب على أصوات كل ما يحيطه....صوت بائع الخضراوات,هدير محرك سيارة قديمة متهالكة,نغمات موسيقى محل بيع الأسطوانات والأشرطة,أصوات وقع أقدام المارة على الرصيف أمامه.....يتمكن بجهد وعناء كبيرين من إيجاد قطعة كرتون نظيفة يجلس فوقها.....أفكاره مشتتة,قدماه متعبتان....يلقي بحقيبة ظهره الثقيلة جانبا وهو يستجمع شتات يومه الأقل من عادي,لكنه متعب.....في محاولة لتصفية ذهنه يصيح بالصبي الواقف بجانب كشك القهوة طالبا منه كأسا من الشاي...."وكثّر نعنع بحياتك".....يخلع نظاراته ماسحا أياها بمنديل جديد أخرجه لتوه من جيب القميص العلوي....يصل كأس الشاي بسرعة لم يتوقعها....يلفت نظره الشاب الجالس إلى جانبه مخرجا علبة السجائر المختبئة بالجيب الجانبي لحقيبته بحركة عينيه المتتبعة لعلبة سجائره....فيؤثر على نفسه بدفع العلبة نحو الشاب قائلا "تفضل..." يتطلع إليه بأمتنان...يستلها من يديه بهدوء مكسور متمتما بـ" يسلمو...".يشعل كلاهما سيجارته وينفخان هميهما كما لو كانا الهم نفسه.

-بالك بتهون..؟؟؟
-هه,بعمرها.
-طالب..؟
-آه,وأنت..؟
-عاطل,تخرجت قبل شهرين وبدور عن شغل.
-لا الطالب مرتاح ولا الخريج مرتاح....
-قولتك...!!

   يصمت الأثنين معا....كأن وقع أكعاب مجموعة الجميلات التي مرت من أمامهما يستحق دقيقة صمت....تعيده اللحظة إلى حالة التأمل التي يجبره تفاصيل المكان على الدخول فيها....يعيده بريق الطموح اللامع في عيني الشاب إلى أيامه في الجامعة وكيف كان ينتظر أنهائه لها بفارغ الصبر,حتى يتمكن من مساعدة والده على مصاريف البيت....وكيف كان يخطط للبحث للسفر سياحة إلى تلك المناظر الطبيعية الجميلة التي رآها في أحدى البرامج الثقافية على التلفاز بأول راتب له يقبضه....كم تكون الأحلام جميلة قبل الأصتدام بجدار الواقع.

   يتنهد....وهو يتأمل عامل النظافة المبتسم يزيح أطنان الغبار وأعقاب السجائر المتناثرة هنا وهناك على عتبات الرصيف,والرجل العجوز الجالس على كرسيه الحديدي بجانب-بسطة دخان- يسترزق منها قوت عياله,يقول في سره"يا رب يسرها بأي شغل....المهم ما أضل هيك"....يتناول حقيبته,يدفع ثمن كأس الشاي,يودع الشاب وينطلق إلى البيت بأمل غد بلا بطالة.